لو جاز لي أن أوجز كل مضمون هذا الكتاب وأن أعطي خلاصة تجربتنا في ’خيال‘ في صورة نصيحة عامة خالية من التفصيل، فستكون تلك النصيحة هي:

(من فضلك ما تبنيش منتج للسوق المصري)

مع الأخذ في الاعتبار أنّ هذه ليست نصيحةً جامدةً ثابتةً غير قابلةٍ للنقاش أو التعديل، لذلك دعني أحاول أن أضع لها بعض الضوابط. إذا كنت ستبدأ بفكرةٍ لها علاقةٌ بمجال البرمجيات وأنت لا تعرف على وجه الدقة، من أين أو كيف ستأتي بالعوائد والأرباح من السوق المصرية أو العربية – وهذه هي الحال في ٩٥٪ من الشركات الناشئة التي تعاملت معها – فأرجوك، تجنب السوق المصرية واتجه مباشرةً إلى السوق العالمية، وخصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أنّ فرصك في النجاح هناك ستكون أعلى كثيرًا في رأيي من فرصك في السوق المحلية.

غالبية روّاد الأعمال (entrepreneurs) يبدأون بمحاولة حل مشاكل خاصةٍ بالبيئة المحيطة بهم، أو طرح أفكارٍ تتعلّق بها، وبالتالي يبدأ الشباب المصري العامل في مجال التكنولوجيا بالتوجّه نحو السوق المحلية مباشرةً كخطوةٍ منطقيةٍ جدًا في التفكير. لقد كان هذا هو ما فعلناه بالضبط في ’خيال‘، وأعتقد أنه كان أحد أخطائنا الرئيسية، فالفرص أكبر من حيث الكمّ والكيف في السوق العالمية.

أخوض هذا النقاش كثيرًا مع مؤسسي الشركات الناشئة الصغار، وأحاول دفعهم بشدةٍ نحو الانطلاق بمنتجاتهم وأفكارهم إلى السوق العالمية بدلًا من التركيز على السوق المصرية، ولكثرة خوضي هذا النقاش وجدت كثيرًا من الأقاويل المتكرّرة التي يدافع بها المؤسسون عن فكرة السوق المحلية، منها:

(مش هاقدر أنافس جوجل وفايسبوك وتويتر … دول هياكلوني)

– أولًا دعني أهنئك! أنت رائد أعمالٍ (entrepreneur) واقعيٌّ يعلم أننا في مصر حاليًا لا نملك المقومات ولا الآليات الاستثمارية اللازمة لإنشاء شركاتٍ بهذا الحجم، ولكن مَنْ قال إننا نريد منافسة ’جوجل‘ (Google) أو ’فيسبوك‘ (Facebook) أو ’تويتر‘ (Twitter)؟ إنّ وسائل الإعلام تسلّط الضوء دائمًا علي قصص النجاح الهائلة، وعلى شركاتٍ تتجاوز قيمتها السوقية مليارات الدولارات، ولكنها تُغفل عادةً ذكر قصص النجاح المتوسطة والصغيرة، وهي تمثّل بطبيعة الحال النسبة الأكبر من قصص النجاح. فقصص النجاح الصغيرة والمتوسطة بالمقاييس الأمريكية قد تتحول بسهولةٍ إلى قصص نجاحٍ كبيرةٍ جدًا في مصر بفضل فارق العملة، وفارق أحجام الشركات؛ إنّ شركةً تُباع لقاء مبلغ ١٠ مليون دولار مثلًا، هي قصة نجاحٍ صغيرةٌ في أمريكا، ولكنها في مصر تتحوّل إلى صفقةٍ يبلغ حجمها ٧٠ مليون جنيه مصري، وهو مبلغٌ ممتازٌ بالطبع لأغلبية العاملين في قطاع الشركات الناشئة في مصر.
ابحث عن قصص النجاح الصغيرة، وحاول أن تعرف كيف وصلت إلى هذا النجاح، وتأكد أنّ الاقتباس والتعلّم من آليات نجاحها هو أمرٌ ليس بالعسير إذا ركّزت جهودك على الأسواق العالمية.

(ازاي يعني هوصل للسوق الامريكاني والعالمي؟)

لقد أصبحت هذه المسألة يسيرةً جدًا في ظلّ وجود آلياتٍ كثيرةٍ للتوزيع مثل ال (app store)، والبنى التحتية المنتشرة عن طريق ال (cloud computing)، وكذلك وسائل الدعاية التي يسهل توجيها (targeted advertising) ووسائل الإعلام الاجتماعية (social media).وفوق هذا كله فإنّ ’سيليكون فالي‘ (Silicon Valley) في أمريكا يبسط ذراعيْه للموهوبين في كل أنحاء العالم. احرص علي بناء شبكة علاقاتٍ في ’سيليكون فالي‘ (Silicon Valley)، فهو مركز صناعة التكنولوجيا في العالم.

(في ناس معاها فلوس كتير في مصر)

قد يكون ذلك صحيحًا، ولكن ما هي نسبتهم إلى تعداد السكان الكلّي؟ وما مدى ثقافتهم التكنولوجية؟ وما مدى استعدادهم للاستثمار في التكنولوجيا؟ إنّ ثقافة شراء البرمجيات في مصر ضعيفةٌ جدًا إنْ لم تكن معدومةً، فهل تحارب ضدّ التيار وتغرق، أم تذهب إلى حيث الناس مستعدّون فكريًا وماديًا لشراء البرمجيات وتطفو؟

(انا مش عايز حد يشتري حاجة، انا هاكسب من الاعلانات)

تحقيق الأرباح عن طريق الإعلانات أمرٌ صعبٌ في السوق المصرية، وذلك لانخفاض تسعيرة الإعلانات في السوق المصرية عن مثيلاتها في السوق العالمية، كما أن حجم الزوّار مختلفٌ أيضًا. ما زلت أذكر جيّدًا تعليق واحدٍ من المستثمرين بالخارج عند بداية عرض اللعبة، وكنت فخورًا جدًا وقتها بعدد زوّار موقعها الإلكترونيّ www.abo7adeed.com ، إذ قال لي: “أرى أنّ عدد الزوّار منخفضٌ جدًا، لعلك ما زلت في البداية، أليس كذلك؟”. كنت قبلها قد عرضت الأعداد ذاتها على ’لينك دوت نت‘ (link.net) ’وتي إي داتا‘ (TE Data) وأبدوا إعجابهم بها. هنالك أدركت أن هذا التعارض كان سببه فارق التوقعات، وفارق الحجم الهائل بين السوق المحلية والعالمية. نصيحتي هنا هي: ادرس موضوع الإعلانات جيدًا، والمبالغ المتوقعة x من عددٍ من الزيارات y القادمة من مصر (وضع ٢٠ خطًا تحت كلمة قادمة من مصر) وقم بحساباتك لتعرف إن كان الأمر يستحق عناء المحاولة.

(مش مشكلة، شركات كتير جدًا ما طلّعتش فلوس وجت شركات كبيرة اشترتهم عشان عندهم مستخدمين (users) كتير أو عشان فريق العمل موهوب (acquihire)”

هذا صحيحٌ، وهو أمرٌ شائعٌ في أدبيات ريادة الأعمال في الغرب، لكن من الخطأ التأثّر بالكتابات الغربيّة ومحاولة تطبيقها علي الواقع المصريّ دون فهم أبعاد هذا الواقع. ولكي يتضح مرادي، سل نفسك هذه الأسئلة:
– ما هي الشركات العملاقة في مصر التي تشتري شركاتٍ ناشئة؟ (عددها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة)
– كم شركةً مصريةً جرى الاستحواذ عليها مِن قِبَل شركةٍ مصريةٍ كبيرة؟
– إذا افترضنا حدوث ذلك، فما هو الرقم المدفوع في عملية الاستحواذ هذه، وهل كان يساوي تعب السنين؟
خلاصة القول هي أن هذا النوع من المخارج (exits) قليلٌ جدًا في السوق المصرية.

(طب بص … أنا هجرب منتجي في السوق المحلية حيث المنافسة شبة منعدمة والمستوي العام للمنتجات ضعيف حتي يشتد عودي وأحصل على المهارات اللازمة للمنافسة العالمية)

تبدو هذه الفكرة منطقيةً جدًا، وقد كانت واحدةً من أفكارنا الرئيسية في ’خيال‘، ولكنّ بها خللًا لا يلحظه عادةً إلا من خاض التجربة، وتبنّي وجهة النظر نفسها:

١- النجاح في السوق المحلية مسألةٌ صعبةٌ جدًا لظروفٍ أغلبها خارجٌ عن إرادتك. وإذا بدأت بالسوق المحلية ولم تنجح في البداية، فستستهلك كل جهدك في تطوير منتجك وتعديل اتجاهاتك، وعندما توقن بصعوبة النجاح في هذا الاتجاه، فسوف تكون قد استنزفت أغلبية طاقتك النفسية والمادية والمعنوية بشكلٍ يتعذّر عليك بعده محاولة البناء مجدّدًا للذهاب إلى الخارج.

٢- ما سوف تتعلّمه أثناء بناء مشروعك للسوق المحلية يختلف كثيرًا عما سوف تتعلّمه إذا بنيت منتجك للسوق العالمية منذ اليوم الأول، وذلك من حيث أنماط الشراء، وعادات المستخدمين، وشبكة العلاقات، والمنافسين … إلخ

في عالم الشركات الناشئة هناك مقولةٌ شهيرةٌ مفادها أنّ فرصك في النجاح تزداد طرديًا مع عدد المحاولات التي تقوم بها لإنجاح منتجك، ولذلك فإن المزية الرئيسية في وجودك هنا هي أن تكاليف معيشتك قليلةٌ جدًا إذا قورنت بتكاليف معيشة المطور الأمريكي أو الأوروبي، مما يتيح لك عددًا أكبر من المحاولات قبل أن تصطدم بحاجز نفاد المال، كما أن انخفاض تكاليف المعيشة يجعلك أقدر علي مواصلة العيش بعوائد صغيرةٍ لا يستطيع المطور الأمريكي أن يعيش بها. يمكنك مثلًا أن تنشيء مشروعًا صغيرًا يُدرّ 1000-1500 دولار أمريكي شهريًا (وهو أمرٌ ليس بالمستحيل). هذا المال يتيح لك أن تطيل عمر فريق عملك، حتى تستطيع أن تجرّب أكثر وتتعلّم أكثر، وهي رفاهيةٌ لا يتمتّع بها المطوّر في الدول الغربية حيث تكاليف المعيشة أعلى كثيرا.

(كل الافكار اتعملت خلاص بره … بس أنا عندي فكره حلوة أوي محدّش لسه عملها في مصر)

يفترض كثيرٌ من المؤسسين الشباب في مصر أنهم لا بدّ أن يأتوا بفكرةٍ لم يسبقهم إليها أحدٌ قط، وهو افتراضٌ غير واقعيٍّ وغير عمليّ. يقولون في الغرب إن ’وجود المنافسة دليلٌ على صحة الاتجاه‘ (Competition is validation) فوجود المنافسة يعني أن هناك سوقًا، وأنك على الطريق الصحيح، أما إذا لم يكن هناك منافسٌ على الإطلاق فأنت بين أحد احتماليْن؛ الأول هو أنّه لا يوجد سوقٌ لهذه الفكرة، وهو الأغلب، والثاني هو أنك قد عثرت على كنزٍ من المال، وهو الأقلّ احتمالًا.
يندفع المؤسسون أحيانًا إلى الأفكار البرّاقة أو التي تنطوي على تحدياتٍ تقنيةٍ دون حساب المكسب والخسارة. اعلم أنّ الأفكار لا تساوي شيئًا إذا لم تعمل جاهدًا علي تطويرها، وتطويرها مرتبطٌ بقدرتك على جني المال منها، فإن لم تستطع فعل ذلك فسيموت مشروعك إن عاجلًا أم آجلًا. ضع ذلك نصب عينيك وأنت تتجه إلى السوق المصرية.

(ولكني بنيت بالفعل منتج للسوق المصري خلاص، ماذا افعل؟)

في رأيي حاول أن تعيد صياغة الرؤية الخاصّة بمنتجك ليصبح قابلًا للاستهلاك العالمي، وذلك في أسرع وقتٍ ممكنٍ، إلا إذا كنت تكسب ما يرضيك حاليًا، ومن ثَمّ فإن غالبية هذا الفصل لا تنطبق عليك أصلًا.

(ولكن هناك عدد من المستثمرين المغامرين (VCs) والفرص الاستثمارية في مصر فهل اترك كل ذلك؟)

قطعًا لا. حاول الوصول إلى كل تلك الفرص، ولكن حاول الحفاظ على الرؤية الخاصة بمنتجك في الانطلاق إلى السوق العالمية، وإذا سنحت لك مثل تلك الفرصة فحاول دائمًا إيجاد صيغةٍ مناسبةٍ تنتهي بحصولك علي الأموال اللازمة لزيادة حجم شركتك.

(وبعدين؟)

خلاصة القول هي أنه إذا لم تكن لديك أسبابٌ مقنعةٌ جدًا، وطرقٌ أكيدةٌ للحصول علي الأموال من السوق المحلية، ففي رأيي الشخصي يجب الاتجاه إلى السوق العالمية منذ اليوم الأول؛ لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة لوضع مصر علي خريطة التكنولوجيا العالمية، كما أن ذلك يضاعف فرصك في النجاح كما ذكرت.

Comments

comments